المبحث الثالث: الاختصاص التفسيري للمحكمة الدستورية:

إن الدساتير بشكل عام تستخدم عبارات تتسم بالمرونة اللفظية بحيث يسعى المشرع الدستوري لأن يتلاءم هذا الدستور مع مختلف الأحداث ولأن يطبق لسنوات وعقود بل ولقرون قادمة لذا يصعب إدراك تلك الغاية من خلال نصوص دقيقة ومنضبطة الصياغة. من هنا تأتي الصياغات المتوسعة والتي تسعى لوضع القواعد والمبادئ العامة ليستوعب كل نص دستوري حزمة التشريعات القانونية التي ستصدر عن السلطة التشريعية في المستقبل والتي لتحيا يجب أن تستظل بظل هذه المادة أو تلك، وفي حال عدم شمول ظلال مواد الدستور لتلك التشريعات فإن تلك التشريعات تعتبر قوانين مارقة عن السياق الدستوري والنسق الدستوري الذي قصدها المشرع الدستوري.
المطلب الأول: ما الذي يصلح أن يكون محلا للتفسير:

ولكن ما الذي يصلح أن يكون محلا للتفسير هل هي مواد الدستور فقط، أم كذلك ديباجة الدستور، وماذا عن المذكرة التفسيرية هل تصلح أن تكون هي أيضا محلاً للتفسير. وماذا عن الأعراف المشكلة للقواعد الدستورية هل تكون أيضا محلا للتفسير من قبل المحكمة الدستورية. وماذا عن قانون توارث الإمارة باعتباره لديه القوة الدستورية في نطاق التعديلات التي يتم إدخالها عليه من حيث تساوي الإجراءات مع الدستور.
بل وداخل مواد الدستور هل كل مادة يصلح أن تكون محلا للتفسير فماذا عن المواد التي تقرر توجيهات عامة وصبغة سياسية واجتماعية واقتصادية للدولة دون ان تفرض قيودا معينة على السلطات التي يخلقها الدستور.
ونرى أن ما يصلح أن يكون محلا للتفسير أمره متروك للمحكمة ولكنه قد يخلق إشكالات امام المحكمة كأن تأتي الحكومة لتطلب تفسير عرف دستوري مستقر ومدى جواز تركه أو مخالفته فتستجيب المحكمة لهذا الطلب، أو أن تفسر التصوير العام لنظام العام داخل المذكرة التفسيرية والتي حملت بعض التصورات السياسية لتنزل عليها المحكمة قواعدا دستورية من عندها وفي هذه الحالة سيكون لدينا إشكالا حقيقيا في استخدام وسيلة التفسير للتوصل إلى إنزال أحكام دستورية جديدة أو إعادة صياغتها.
المطلب الثاني: ضمانات التفسير الدستوري:
وكيف نضمن الا يستخدم القضاء الدستوري هذا الاختصاص بالتفسير لتمرير أجندات سياسية معينة بل كيف نضمن ألا تعطي المحكمة تفسيرا لنص دستوري معين ولكنه أبعد ما يكون عن الرغبة التي حملها المشرع الدستوري وقت صياغة المادة.
وهناك حالات قد يتخطى القاضي الدستوري دوره ليحل ارادته الذاتية محل إرادة المشرع الدستوري وتزيد تلك النزعة كلما زاد الفارق الزمني ببين القاضي الدستوري والمشرع الدستوري.
بل ومن الممكن أن تقوم الجهات الفنية التي تتولى عملية صياغات المذكرات القانونية التي تقدم أمام المحكمة الدستورية بوضع تفسيراتها الخاصة لبعض النصوص أو إضافة نصوصا أخرى ليست محلا للطلب التفسيري كنوع من الاستدلال ولكن نعتقد أن في ذلك تجاوزا على طلب التفسير المقدم من الحكومة وفي ذلك تجاوزا لصلاحياتها وقد لمحت المحكمة الدستورية في قرار تفسيري متعلق بحدود مسائلة رئيس مجلس الوزراء لحجم هذه المخالفة دون التصريح مباشرة بذلك عبر قولها ” …وإنه وإن كان للجهة طالبة التفسير أن تستعين بجهازها الفني المتخصص لبسط وجهة نظرها وإفراغها في مذكرة الطلب التي يجرى تقديمها إلى المحكمة في هذا الصدد، إلا أنه يقع على عاتق الجهة المكلفة بتحرير مذكرة الطلب واجب الالتزام في هذه الحالة بحدود ما قد طُلب منها توضيحه من بيان، والتقيد في هذا الشأن بما ورد بقرار مجلس صاحب الصفة في الطلب ، وما جاء به متعلقًا بتحديد نصوص الدستور المطلوب تفسيرها دون مجاوزة لحدود هذا الطلب، أو خروج عن حدود التكليف الصادر لها، والذي ينصرف إلي بيان ما يرتبط بالنصوص المطلوب تفسيرها من مواد أخرى واردة بالدستور يتم التفسير على ضوئها، دون إضافة نصوص قانونية أخرى إلى الطلب لانحسار هذا الاختصاص عنها أصلاً، وانتفاء صفتها في إصدار قرار بالطلب منفردًا” .

المطلب الثالث: التأثيرات السياسية على القرارات التفسيرية:

فالتفسيرات الدستورية التي تقوم بها المحاكم الدستورية تقترن بالزمان وبالرجال الذين أطلقوا هذا التفسير في قضية أو أقضية معينة، وبحسب حرية التعبير التي تملكها المحكم ذاتها في إطار منظومة الحكم القائمة. ففي بعض أنظمة الحكم قد يصعد الرهاب الفكري في وقت معين ليغطي أرجاء المكان ولا يستثني وقتها حتى جهات القضاء الدستوري سواء كان ظاهرا أو متسترا.
فالأحوال السياسية تؤثر على تفسيرات المحكمة الدستورية وبالنظر مثلا لتفسيرات المحكمة نجد أنها كانت تقوم ببعض التفسيرات تبعا للحالة السياسية كأن يكون هناك أزمة سياسية بين الحكومة وبين البرلمان بخصوص الحق في السؤال وبعد استعصاء الحلول السياسية أمام الحكومة فإنها تلجأ للمحكمة للحصول على تفسير دستوري منها دون المعالجة السياسية في ساحة البرلمان ويكون واقع الحال أن الحكومة أدخلت المحكمة الدستورية طرفا في المنازعة السياسية بغطاء طلبات التفسير. فقد وجدنا أن المحكمة الدستورية في قراراتها التفسيرية بخصوص السؤال البرلماني قد وضعت أحكاما جديدة بل ونرى فيها تجاوزا للدستور سواء في قراراها رقم 3 لسنة 1982 بخصوص سرية أسماء المرضى أو بقرارها رقم 3 لسنة 2004 بخصوص قواعد السؤال البرلماني بشكل عام.
كما أننا وجدنا أن المحكمة في ظل الخضم السياسي حول الاستجوابات البرلمانية التي صاحبت مجلس 2009 فقد أصدرت قرارها التفسيري رقم 2 لسنة 2011 بخصوص حدود الاستجواب الموجه إلى رئيس الوزراء وكان لهذا القرار التفسيري تبعات سياسية سواء في البرلمان أو في الشارع السياسي وهو ما نعزوه من وجه نظرنا بأن المحكمة لا يكون لها التدخل إلا إزاء طعن دستوري يتعلق بدستورية القوانين أما استخدام طلبات التفسير لتقديم تفسيرات سياسية بغطاء دستوري فإنها ستكون وسيلة لحل المنازعات السياسية في أروقة المحكمة وقد يتطور الأمر إلى حد إدخال المحكمة الدستورية في الخصومة السياسية.

المطلب الرابع: طرق التفسير:

لا شك أن العديد من الأجهزة الحكومية والمؤسسات التابعة للدولة سواء من خلال تطبيقها للدستور أو اصدراها للوائح تمارس تفسيرات دستورية بخصوص الموضوع المطروح، وكذلك العديد من اللجان البرلمانية خلال مناقشة مشروعات للقوانين تعمل بذات الكيفية فهي تضع تفسير دستوري معين للمشروع وبالتالي مسألة مرور تلك المشروعات عبر اللجان وإحالتها للبرلمان الذي قد لا يأخذ الوقت الكافي لمطالعة مسألة الدستورية ومدى توافق المشروع مع تفسيرهم الدستوري الحاضر في المناقشة. مع الأخذ بالعلم إن نسبة لا تكاد تحصى من القوانين واللوائح المطبقة في الدولة هي من يطعن عليها بعدم الدستورية لتنظرها المحكمة الدستورية، ونسبة ضئيلة من تلك النصوص المطعون بعدم دستورية هي من تبطلها المحكمة لعدم الدستورية لذا يمكن القول إن شراك المحكمة الدستورية التي تصطاد بها التشريعات الأصلية أو الفرعية غير الدستورية تصبح غير فاعلة إذا ما قارنا بين عدد التشريعات الصادرة مع عدد الأحكام التي قررت عدم دستورية النصوص.
لذلك كل سلطة تنفرد بتطبيق الدستور بحسب تفسير تلك الجهة للدستور فالقاضي الدستور يتولى تفسير الدستور فقط بالنسبة للنزاعات المعروضة أمامه، ولكن الأخطر هو تطبيق السلطة التنفيذية لهذا الفهم الدستوري عندما تتولى عملية تنفيذ القوانين ضمن الأطر الدستورية ولا شك أن عملية التنفيذ تختلف باختلاف الحكومات ومدى فهمها للجانب الدستور. وفي المقابل فهم الحكومة وتطبيقها للجانب الدستوري يكون محلا للرقابة التشريعية وفهمها الذاتي للدستور لتنزل السلطة التشريعية فهمها الدستوري الخاص على الفهم الحكومي لفحص دستورية ومشروعية التطبيقات. لذا يتضح من واقع الحال ان المساحة الأكبر لعملية تفسير الدستور لا تحصل من قبل المحكمة الدستورية بل من قبل السلطة التنفيذية بشكل أكبر ثم يتلوها البرلمان في شقين الأول إنزال الفهم الدستوري على ما يصدره من تشريعات، والثاني مراقبته على تنفيذ الحكومة للمسؤوليات الدستورية والقانونية الملقاة على عاتقها. فلا يتبقى للمحكمة الدستورية من اختصاص تفسيري سوى ما يعرض عليها من منازعات قضائية.
المطلب الخامس: مناهج التفسير:

هناك مناهج أشارت اليها المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة باعتبارها المصدر الأكثر ثراءً في تجارب المحاكم الدستورية وتأسيسها للنظريات المختلفة. فنجد أن لديها مناهج تتبناها المحكمة بحسب الحقبة التي تعيشها وبحسب نوعية القضاة الذين يشكلونها وبحسب التأثيرات الفلسفية المتزامنة مع القرارات التفسيرية.
سنتناول المناهج على النحو التالي:
الفرع الأول: المنهج الحرفي.
الفرع الثاني: المنهج القصدي.
الفرع الثالث: منهج الدستور الحي.
الفرع الرابع: المناهج المستخدمة في القضاء الدستوري الكويتي:

الفرع الأول: المنهج الحرفي:

وهو منهج تقليدي يقوم على كرة الشكلية أي الالتزام بالشكل في التفسير وتظهر الحاجة إلى المنهج الحرفي كلما كان النص المراد تفسيره واضحا ودقيقا في صياغته بحيث لا تحتاج المحكمة إلى استخدام مناهج أخرى للتوصل الى التفسير الصحيح. ويطلق على هذا المنهج مصطلح Textualism في الفقه الأمريكي.
في هذا المنهج تلجأ المحكمة إلى تحليل المصطلحات والكلمات والعبارات الواردة في النص كوسيلة للوقوف على معنى النص وقد يصل الأمر إلى اللجوء للمفسرين اللغوين والمعاجم للتوصل لمعنى النص باستخدام النص دون غيره من الوسائل .
فلا يركز هذا المنهج على مقاصد واضع النص بل يركن إلى النص ذاته لا يلجأ إلى مناقشات البرلمان بخصوص النص أو الأعمال التحضيرية للمشروعات والاقتراحات وإنما يتعامل مع النص بشكل مجرد.
وقد يجد هذا المنهج صعوبة في إدراك المعنى الحقيقي للنص بسبب طبيعة الصياغة التشريعية التي قد تتسم بالغموض وإن كان هذا المنهج يسعى للضغط على المشرع لأن تكون صياغاته التشريعية ذات سبك وحبك صارمين من السهل استخلاص الدلالة المقصودة دون اللجوء إلى بدائل عن مطالعة النص بحيث لا يتم اللجوء إلى وسائل خارجية والاكتفاء بالوسائل الداخلية. كما أنه يواجه صعوبة تغير معاني الألفاظ بمرور الزمن.
فلدى أنصار هذا المذهب فالقانون هو النص وليس ما سبقه من أعمال على اعتبار أن الخلافات السياسية التي تسبق صياغة أي قانون لا يفترض أن تكون جزءً من تراكيب النص أو وسيلةً للوصول إلى معانيه والتي قد تتحول وتتحور من جلسة إلى أخرى ومن لجنة إلى أخرى حتى تصل إلى شكلها النهائي لتتهاوى بعد ذلك كل المقاصد المختلفة ويبقى مقصد النص بحلته الجديدة.
ولا يرفض هذا المنهج كرة البحث عن مقصد النص ولكنه يرفض السعي وراء مقصد واضع النص للتوصل إلى مقصد النص فهو يفصل بين النص وواضعه ويرفض استخدام الوسائل الخارجة عن النص في تفسير النص .
الفرع الثاني: المنهج القصدي:

ويعتبر أيضا هذا المنهج من المناهج التقليدية وتسعى لتفسير النص من خلال البحث في إرادة المشرع وقت الصياغة، ويطلق عليه الفقه الأمريكي اسم المقاصدية أو القصدية Intentionalism واعتمدت المحكمة العليا عليها في العديد من أحكامها. وقد ينتج من خلال استخدام هذا المنهج أن يستند قاضيان في نفس المحكمة ولذات القضية على إرادة المشرع ومع ذلك يتوصلون إلى نتائج متعارضة ي النهاية.
فالقاضي عند استخدامه لهذا المنهج يحاول أن يضع نفسه موضع المشرع الذي صاغ النص للتوصل إلى المعنى الذي أراده المشرع لحظه صياغته ليتناسب مع القضية المراد تطبيق النص عليها .
فهذا المنهج يركن للنص ولكن عبر استحضار معانيه من خلال الوسائل الخارجية وهي رغبة المشرع أو إرادته. وتعتمد المحاكم الإنجليزي على هذا المنهج من خلال إعطاء مقاصد واضعوا التشريع كأولوية للتوصل إلى معاني النص .
ويتجه هذا المنهج إلى التركيز على تاريخ التشريع والأعمال التحضيرية التي صاحبته خلال مراحل التشريع، كأن تبحث المحكمة في تقارير اللجان البرلمانية والدراسات المصاحبة لها ومناقشات الأعضاء سواء في اللجان أو الجلسات.

الفرع الثالث: منهج الدستور الحي:

يحاول هذا المنهج أن يتوصل لصياغات دستورية تتناسب مع واقع المجتمع المعاصر وإيجاد حلول لمشكلاته المستحدثة والتي قد لا تسعف النصوص القديمة في معالجتها دون إعطاء تلك النصوص معاني تتناسب مع الواقع الجديد.
فالدساتير لا تعتبر وثيقة قانونية صرفة بل وثيقة اجتماعية وسياسية واقتصادية وقانونية فهي انعكاس للمجتمع ويجب أن تظل كذلك عبر إعطاء التفسيرات التي تضمن بقاء الدستور حيا أطول فترة زمنية وألا تتصف نصوصه بعدم الواقعية وانفصالها الزمني عن واقع المجتمعات الحديث.
وهناك وسائل مختلفة لضمان بقاء الدستور حيا سواء عبر التعديلات الدستورية المتنوعة من حيث الموضوعات ومن حيث المواقيت، أو عبر إعطاء الدستور تفسيرات حديثة تلائم ظروف الحال دون الشطط وإهمال صراحة النصوص.
فهناك مدارس فقهية تتنازع حول فكرة هل تغير المتجمع وتحوله عبر الزمن يجب أن يغير من الصياغات القانونية للدساتير، أم أن الدساتير ونصوصها يجب أن تكون ثابتة صياغة وتفسيرا حتى يتم الغائه أو تعديله.
وقد يلجأ القضاء لاستخدام التفسير الديناميكي أي بإعطاء النصوص تفسيرات متغيرة ولم تخطر على بال من صاغ النص لحظة الصياغة ولكن بسبب البعد الزمني فإن القاضي يقوم بعملية التفسير مع الأخذ بالاعتبار التغيرات التي طرأت على المجتمع ككل .
وينتقد هذا المنهج على اعتبار ان عملية التفسير الديناميكي هي في حقيقتها عملية تعديل تشريعي مبطنة دون اتباع للإجراءات وتعطي للقاضي صلاحيات المشرع مما يجعلها في حالة تصادم مع مبدأ الفصل بين السلطات .
كما قد يلجأ هذا المنهج باستخدام التفسير العملي من خلال فحص النتائج العملية للتفسير وليس الاعتماد على الجانب النظري وبالتالي يعتمد الأمر على سياق النصوص والجانب العملي للنص، فلو كان التفسير يؤدي لنتائج غير عملية في أي زمن فإنه يترك ويتم اللجوء لتفسير أخر.
فهذا المنهج يختلف عن المناهج الأخرى أنه يركن إلى الواقع الذي سيتم تطبيق النص عليه وليس إل النص ذاته أو إلى مقاصد واضعي النص.
فوفقا لهذا المنهج فإن الدستور يتغير بمرور الزمن وذلك من قبيل التطور والنمو وانعكاسا لتغيرات المجتمع ، دون أن تترك نصوص الدستور بمضي الزمن نتيجة عدم قدرتها على مواكبة المتغيرات في المجتمع المراد تطبيق نصوصه عليه.

الفرع الرابع: المناهج المستخدمة في القضاء الدستورية الكويتي:

إن المحكمة الدستورية من خلال فحص أحكامها نجد أنها لا تتعمق مع التفسيرات الدستورية التي تتناولها في أحكامها، كما أن تتابع المحكمة في عدم تدوين رأي الأقلية خلال سنوات عديدة كان له أثر في عدم طرح الرؤى الخاصة لكل عضو بحرية مما نتج عنه فقر المناهج التفسيرية المختلفة والتي قد تكون رد من فريق على فريق أخر في المحكمة أو على أحكام سابقة.
ومع ذلك يمكن من خلال تتبع بعض الأحكام أن نجد نوع من أنواع المناهج في التفسير دون ذكرها صراحة ودون تبلورها بشكل صريح.
فنجد أن المحكمة استندت في بعض الأحكام على المنهج الحرفي وكذلك القصدية منها على سبيل المثال عندما أرادت أن تقرر لنفسها اختصاص التفسير الدستوري وأرادت أن تدلل أن المشرع الدستوري قصد أن يمنحها هذا الاختصاص في المادة 173 وذلك عبر تفسيرها لمصطلح “منازعات” الواردة في المادة وفي ذلك تقول المحكمة ” لما كانت الفقرة الأولى من المادة (173) من الدستور قد جرى نصها على أن (يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) وإذ كان من مقتضى التفسير تحري القصد التشريعي والنزول من ظاهر النصوص إلى مكنوناتها بغية التعرف على فحواها الحقيقي، وأنه على هدى هذه المعاني فإنه بتمحيص عبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) يبين أنها تضم في مدلولها ونطاقها المنازعة في فهم النص ومراميه لاسيما وأن من المسلم أن الدعوى الدستورية في عمومها هي دعوى عينية تستهدف تشريع ما لبيان مدى مطابقته لأحكام الدستور، فهي خصومة بشأن النص الدستوري، ينضوي في إطارها الخلاف المتعلق بمجال أعماله بما يقتضي لزوماً استبانة نطاقه وصولاً لوجه الرأي فيما يثيره في التطبيق من اختلاف، وعلى ذلك فإن المنازعات الدستورية التي أشارت إليها المادة (173) من الدستور ليست قاصرة على مجرد الطعن في دستورية تشريع ما، وإنما تتسع أيضا ً لتشمل تفسير النص الدستوري بصورة مستقلة، وذلك أن طلب تفسير نص دستوري إنما يحمل في ثناياه وجود منازعة حوله وتباين وجهات النظر فيما تعنيه عباراته، ويكفي في هذا الشأن أن يدور حول النص أكثر من رأي على نحو يغم معه إعمال حكمه، سواء فيما بين الجهات المعنية (مجلس الأمة والحكومة) أو في داخل أي منهما ليسوغ معه الالتجاء إلى الجهة القضائية المختصة (المحكمة الدستورية) لتجلية غموضه وذلك لوحدة التطبيق الدستوري واستقراره ..” .
” في بيان اختصاص الجهة القضائية صدر المشرع الدستوري المادة (173) المشار إليها بالعبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين) ثم استعمل في الفقرة الثانية – لكفالة حق الحكومة وذوي الشأن في تحريك الدعوى الدستورية – عبارة (الطعن لدى تلك الجهة في دستورية القوانين)، وواضح من مقارنة العبارتين أن الأولى أوسع معنى من الثانية، مما يعني أن الفقرة الأولى قصدت أن تكون المنازعة الدستورية شاملة طلب التفسير والطعن في دستورية التشريع في حين أن ما عنته الفقرة الثانية قاصر على الطعن في الدستورية ليس إلا، ولو كان المراد من النص الدستوري، بفقرتيه، غير ذلك لاستعمل المشرع عبارة ( تختص بالرقابة القضائية على دستورية القوانين ) ليفصل بين الاختصاص بالرقابة والاختصاص بالتفسير أو اقتصر على عبارة الفقرة الثانية (تختص بالفصل في الطعون في دستورية…)
فيلاحظ أن المحكمة استندت إلى المنهج الحرفي في تفسير مصطلح منازعات، كما استندت على منهج القصدية عبر محاولة استخلاص رغبة المشرع من استخدام تلك النصوص.

كما استندت المحكمة الدستورية على منهج “القصدية” من خلال تتبع الأعمال التحضيرية واستخلاص إرادة المشرع الدستوري من النص المراد تفسيره وذلك بقولها “…لما كان ذلك وكان في صور التفسير للنص الدستوري الذي تقوم به المحكمة صور ثلاث: الأولى فيما يطعن على التشريع بعدم مطابقته للنص الدستوري، بما يقتضي ذلك تفسيره لحسم الخلاف الذي ثار حول التشريع، والثانية: إذا ما أريد للطعن على تشريع ما بعدم الدستورية فتقوم الحاجة للجوء إلى المحكمة الدستورية للتعرف أولاً على نطاق النص الدستوري وحدوده وضوابطه وصولا لوجه الرأي في الخلاف الشاجر حول التشريع المشكوك في دستوريته لإمكان الطعن فيه، والثالثة إذا ما أريد قبل إصدار تشريع ما التعرف على التفسير الصحيح للنص الدستوري المتصل به لإمكان إعداد مشروع القانون المقصود متطابقاً مع أحكام الدستور وهي الصورة التي قال بها الخبير الدستوري بمناسبة الصياغة النهائية لنص المادة الأولى من القانون رقم 14/1973 (مضبطة الجلسة العاشرة المعقودة بتاريخ 27/1/1973)، وليس في هذه الصورة ابتداع أسلوب للرقابة السياسة لم يقرره الدستور وإنما يستهدف بذلك الوقاية من خطر صدور قانون غير دستوري، وليس بإمكان الجهة القضائية مباشرة ذلك إلا بناء على طلب الهيئة السياسية المختصة كالهيئة التشريعية أو الهيئة التنفيذية، وتكون الرقابة القضائية حينئذ مرتبطة بالرقابة السياسية ونتيجة لها، وعلى ذلك يصح القول بأن المشرع الدستوري – فيما قرره في المادة (173) من الدستور – إنما أراد أن يسند للجهة القضائية – المحكمة الدستورية – ولاية تفسير النصوص الدستورية سواء كانت ذلك بصفة أصلية أو تبعاً لطعن دستوري على تشريع ما، وهو ما ذهبت إليه هذه المحكمة في قرارها السابق رقم 1/1985 تفسير دستوري وما قال به من تصدى له من رجال الفقه بالبحث والدراسة…
قد جاء ذلك القانون ثمرة عمل المجلس النيابي والحكومة، وتجسيداً لاتجاههما ورغبتهما في إصداره على نحو يكفل تنفيذ خطاب المشرع الدستوري بجعل ولاية المحكمة الدستورية شاملة الاختصاص بتفسير النصوص الدستورية بصفة أصلية ومستقلة، وهو ما تكشف عنه المناقشات التي دارت داخل المجلس بين أعضائه حول مشروعي قانون إنشاء المحكمة المقدمين من الحكومة والمجلس، كما أكده الخبير الدستوري الذي شارك في المناقشات وساهم في صياغته وصياغة الدستور من قبل؛ فقد جاء في رده على استفسارات أعضاء مجلس الأمة حول اختصاصات المحكمة الدستورية ودور المجلس في تقديم الطعون إليها ما يلي: (اختصاص المجلس بأن يقدم طعوناً إلى المحكمة الدستورية مقصود به – بصفة خاصة – أمران: الأول الطعون الانتخابية التي تقدم للمجلس فيحيلها إلى المحكمة الدستورية. الأمر الثاني: ليس الطعن بمخالفة القوانين العادية للدستور؛ لأن هذا كما قال العضو المحترم أمر بيد المجلس، إنما حيث يختلف على تفسير مادة دستورية – كما حدث مثلا من قبل بالنسبة للمادة (131) تختلف الآراء في تفسير المادة الدستورية …. فيريد المجلس قبل أن يصدر قانونا في أمر من الأمور أن يعرف التفسير الصحيح لهذه المادة الأولى من مشروع القانون بعبارة (المحكمة الدستورية تختص بنظر تفسير الدستور) ثم دستورية القوانين المخالفة للدستورية فالطعن الانتخابي والتفسير هما الحالتان اللتان يأتي الطلب فيهما من مجلس الأمة) انتهى وتراجع في ذلك مضبطة الجلسة العاشرة المعقود في 27/2/1973 ” .

كما يمكن استخلاص منهج “الدستور الحي” في تفسير المحكمة وأن الواقع العملي يفرض عليها مثل هذا التفسير وذلك بقولها “… وحيث إنه لما كان تفسير الوثيقة الدستورية إنما يمثل إحدى الموضوعات الهامة في التطبيق العملي لنصوصها، بما استلزم معه الحرص على تضمينها أيضاً لطريقة تفسيرها وحدوده حتى يكون هناك ضمان لعدم الخروج على قواعدها تحت ستار تفسيرها؛ الأمر الذي اقتضى معه تضمين المادة (173) موضوع التفسير بما يلزم المشرع بتعيين الجهة التي تقوم بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والتي تشمل الاختصاص بتفسير النصوص الدستورية، وقد خلا الدستور من نص صريح يخول جهة ما القيام بتفسير النصوص الدستورية غير الجهة القضائية المشار إليها، توكيداً لاختصاصها بذلك التفسير دون سواها وليس من المقبول أن يعهد بتلك الولاية إلى أي جهة أخرى دون الجهة القضائية مع حرص الدستور على إحاطة هذه الجهة بسياج من الاستقلالية وفيض من الضمانات المادة (163) من الدستور وكفل حق التقاضي أمامها للجميع ( المادة 166) من الدستور بوصفها موئل العدل وإحقاق الحق، ورجال القضاء – على ما قالت به المذكرة التفسيرية – هم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور قانون القوانين بما يستوي معه القول باختصاص المحكمة الدستورية بمهمة التفسير الدستوري على ما سلف بيانه” .
فنجد أن المحكمة في ذات القرار التفسيري لها استخدمت ثلاثة مناهج في التفسير لتعطي لنفسها صلاحية واختصاص اصدار القرارات التفسيرية في المنازعات السياسية بين الحكومة والبرلمان.
كما استخدمت المحكمة المنهج الحرفي في أحد قراراتها التفسيرية بخصوص التحقيق البرلماني بعدما ثار خلاف بين البرلمان والحكومة حيث تقول المحكمة “… ثالثًا: أن المقصود من عبارة (الجلسة المحددة لنظره) الواردة بالفقرة الأولى من المادة (124) من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة هي الجلسة التي يدرج فيها السؤال بجدول الأعمال وإن تأخر وقت التعقيب عليه إلى جلسة لاحقة بمعنى أن الجلسة التي يدرج السؤال بجدول أعمالها، وهي الجلسة التالية لتاريخ إبلاغه إلى رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المختص هي الجلسة المحددة لنظره” .
كما استخدمت المحكمة أكثر من منهج تفسيري بمناسبة قضية مهمة وخلافية وهي الطعن الحكومي على القانون رقم 42 لسنة 2006 بعدم دستوريته لمخالفته لقواعد المساواة لأنه أخل بها عبر توزيع الدوائر الانتخابية بشكل غير عادل كما طعنت الحكومة على نظام الأصوات الأربع باعتباره يهمش المكونات القليلة ويساعد على عملية شراء الأصوات والتكتلات القبلية والحزبية، وقد رفضت المحكمة الطعن واستخدمت المنهج الحرفي والقصدية ولجأت لتاريخ التشريع وأعماله السابقة وذلك بقولها “…وحيث إن الطعن الماثل– وقد تحدد نطاقه على هذا النحو– وكان الدستور الكويتي لم يحدد الدوائر الانتخابية التي يقسم إليها إقليم الدولة، ولم يضع قيودًا في شأن تحديد عددها، ولا في عدد النواب الممثلين لكل دائرة منها في مجلس الأمة، وإنما ترك ذلك للمشرع يجريه بما له من سلطة تقديرية في هذا الشأن، واكتفي الدستور بالنص في المادة (81) منه على أن “تحدد الدوائر الانتخابية بقانون”، أي بتشريع يتناول تحديد هذه الدوائر، وهي إما أن تقوم على أساس عدد السكان، وإما أن تكون على أساس جغرافي، ويساند ذلك ما جاء بمناقشات المجلس التأسيسي في هذا الصدد إبان إعداد الدستور في مراحله الأولى التي تلقي بظلالها على تأكيد هذا المفاد.
لما كان ذلك، وكانت هذه المحكمة لا تملك إلزام المشرع بتحديد عدد الدوائر الانتخابية أو تقسيمها على نحو معين، وبالتالي فإنه ليس من شأن تحديد القانون في (المادة الأولى) منه الدوائر الانتخابية بخمس دوائر أن يشكل– في حد ذاته– مخالفة لنص الدستور، فضلاً عن أن العبارة التي استهل بها النص على أن “تحدد الدوائر…..” تنصرف إلى تحديد التخوم بين دائرة وأخرى بما يفيد تعددها، وهذه المحكمة مجردة من الوسائل القضائية التي تعيد بها تحديد هذه الدوائر ومكونات كل دائرة منها بإدخال المناطق المقول بأن الجدول المرافق للقانون قد أغفل إدراجها ضمن أي من الدوائر الانتخابية المشار إليها. هذا وقد لاحظت المحكمة من استعراضها للمراحل التشريعية التي مر بها تحديد الدوائر الانتخابية أن الأسباب والدوافع التي أشارت إليها الحكومة في طلب الطعن الماثل لا تعدو أن تكون هي ذات الأسباب والدوافع التي أشارت إليها المذكرات الإيضاحية للقوانين المتعاقبة الصادرة في هذا الشأن، والتي اقتضى معها النظر في تعديل تحديد الدوائر أكثر من مرة، كان آخرها القانون رقم (42) لسنة 2006 المشار إليه الذي صدر بعد أن وافق عليه مجلس الأمة. أما بالنسبة إلى ما أثارته الحكومة في طلب الطعن متعلقًا بنظام التصويت في كل دائرة بما لا يجاوز أربعة مرشحين، والذي ورد النص عليه في (المادة الثانية) من القانون سالف الذكر بمقولة أن هذا النظام قد تم استغلاله في ارتكاب مخالفات انتخابية وأنه قد أسفر تطبيقه عن أوجه قصور وظهور سلبيات ونتائج لم تعبر بصدق عن طبيعة المجتمع الكويتي وتمثيله تمثيلاً صحيحًا، فإن ما ذكرته الحكومة في هذا السياق على النحو الوارد بأسباب الطعن لا يكشف بذاته عن عيب دستوري، ولا يصلح سببًا بهذه المثابة للطعن بعدم الدستورية لانحسار رقابة هذه المحكمة عنه. كما لا وجه لما تثيره الحكومة من أن القانون في تحديده لمكونات كل دائرة في الجدول المرافق له لم يكن متوازنًا، نظرًا للتفاوت بين عدد الناخبين في هذه الدوائر وأنه كان من شأن هذا التفاوت على النحو الوارد به أن تفاوت الوزن النسبي لصوت الناخب في كل منها، بحيث صار للناخبين في الدوائر الانتخابية الأكثر كثافة أصوات وزنها أقل من وزن أصوات الناخبين في الدوائر الأقل، بما يخل بمبدأ المساواة، مستندة في ذلك على بيان إحصائي جرى عام 2012 إذ أنه فضلاً عن أن المساواة المقصودة ليست هي المساواة المطلقة أو المساواة الحسابية، فإنه لا يسوغ في مقام الوقوف على مدى دستورية القانون التحدي بواقع متغير لتعييب القانون توصلاً إلى القضاء بعدم دستوريته. وترتيبًا على ما تقدم، يكون الطعن على غير أساس حريًا برفضه.” .
فيلاحظ أن المحكمة التزمت بالشكلية في اقصى صورها والمنهج الحرفي بتفسيرها لمصطلح دوائر التي أتت بصيغة الجمع في المادة على الرغم من أنه من المعلوم أن الجمع في الصيغ القانونية لا يمنع التفريد والعكس صحيح ما لم يكن الجمع او التفريد مقصود بذاته صراحة في النص. فتكون المحكمة قد استخدمت حرفية النص لتصادر على المشرع في المستقبل سلطاته في تحويل الكويت إلى دائرة انتخابية واحدة.
كما يمكن اعتباره نوع من أنواع منهج القصدية وهو بتعاضد النصوص عبر تفسير النص بطريقة تكامل النصوص وعبر محاولة استخلاص نية المشرع بصف النصوص المرتبطة بالنص المراد تفسيره للوصول للمعنى الحقيقي للنص، ومثال على ذلك في حكم المحكمة الدستورية بقولها ” …قررت المحكمة أن المقصود بالأغلبية المطلقة للحاضرين المنصوص عليها في المادة (92) من الدستور، إنما يجرى التعرف عليه في ضوء غيرها من المواد المرتبطة، وبخاصة المادتان (97)، (117) من الدستور والمواد (28)، (36)، (37) من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، والعبرة في الحضور الذي تحسب على أساسه تلك الأغلبية هو حضور من شارك في التصويت فعلاً بشكل إيجابي وصحيح، فتستبعد من حساب الحاضرين الأصوات الباطلة والممتنعة، وهو ما يسري حكمه على الورقة البيضاء الذي يعتبر صاحبها ممتنعًا عن التصويت، أي بمثابة الغائب عن الجلسة، كل ذلك متى كانت النسبة الدستورية اللازمة لانعقاد المجلس متوافرة والأغلبية المطلقة تعني أكثر من نصف الأصوات الصحيحة المعطاة، أيًا كان قدر هذه الزيادة، وبناءً على ذلك يكون من حصل على ثلاثين صوتًا من أصل (59) صوتًا قد توافرت له الأغلبية المطلقة” .
فالمحكمة تحاول أن تستجلي المعنى الحقيقي للنص لعلمها بأن المشرع وقت صياغة النصوص فإنه لا يعزلها عن بعضها البعض وكأنه يسير وفق مؤشر بوصلة دستورية معينة لذا في حال استعصى تفسير النص مجردا ودون افصاح المشرع لنيته عبر الوسائل الخارجية فإن المحكمة لها عبر مطالعة النصوص المحيطة استجلاء هذا المعنى للنص محل التفسير.

المطلب الخامس: مدى اختصاص المحكمة الدستورية بالتفسير

إن المحكمة الدستورية من طبيعتها ولازم أعمالها أن تتولى تفسير الدستور كغيرها من السلطات عند ممارسة أعمالهم ولكن ما يحصل اليوم من الناحية العملية هو أن المحكمة الدستورية تتلقى طلبات لتفسير الدستور دون أن يكون هناك نزاع قضائي معروض على المحاكم أو طعن يتعلق بدستورية القوانين أو اللوائح. والقارئ للمادة 173 من الدستور التي أنشأت المحكمة الدستورية لا يجد أي إشارة لاختصاص المحكمة الدستورية بالتفسير كاختصاص منفصل عن الدعوى الدستورية حيث أن التفسير جزء لا يتجزأ من دعوى عدم الدستورية وهذا ما نقر به، ولكننا لا نقر بأن للمحكمة اختصاصا اصليا بنظر طلبات التفسير بشكل مستقل عن الدعوى الدستورية لأنه ببساطة تلك الطلبات وبهذا الشكل من الممكن ألا تنفذ وهو ما يعرض هيبة القاضي الدستوري للاهتزاز، فماذا لو كان هناك صراع سياسي بين الحكومة والبرلمان حول موضوع معين وقامت المحكمة بتقديم تفسير دستوري للمسألة ثم رأت الحكومة أو البرلمان الالتفات عن هذا التفسير، فما هي الوسيلة التي امام المحكمة لضمان تنفيذ قرارها التفسيري عندئذٍ.
ولكننا نقر للمحكمة أن لها أثناء نظر الدعوى الدستورية أن تقوم بتفسير نص دستوري للتوصل لمعناه بغية فحص القانون أو اللائحة محل الطعن ومعرفة ما إذا كان النص المطعون ضده قد خالف النص الدستوري من عدمه. فالمحكمة الدستورية تلتزم بحدود النص عند توليها عملية التفسير فلا تذهب الى المدى الذي تخلق فيه نصوصا جديدة بتجاوز صلاحية التفسير .
لذا بقراءة المادة 173 لا توجد أي إشارة لاختصاص المحكمة التفسيري ونظر الطلبات الأصلية بالتفسير، بل وبقراءة المادة الأولى من قانون انشاء الحكمة الدستورية يصعب معها الفصل بين تفسير الدستور وبين الفصل بالمنازعات الدستورية وهي على النحو الآتي “تنشأ محكمة دستورية تختص دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية وبالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح وفي الطعون الخاصة بانتخاب مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، ويكون حكم المحكمة الدستورية ملزماً للكافة ولسائر المحاكم”. فلماذا يفهم من المادة أن المحكمة تملك اختصاصا اصيلا بتفسير الدستور دون وجود منازعة دستورية يهدف أطرافها للحكم بعدم دستورية القوانين، إذ أن القول بوجود هذا الاختصاص سيجعل المحكمة جهة افتاء وينقل الخلافات السياسية اليومية للمحكمة الدستورية وإن كان هذا من طبيعة المحكمة ولكن لا ان تثقل بطلبات اصلية تقدم فقط لتفسير مادة من مواد الدستور دون ان يكون هناك نزاع قضائي بالمعنى الاصطلاحي.
فالنص الوحيد الذي نستطيع أن نستخلص منه أن للمحكمة الدستورية أن تستقبل طلبات التفسير بشكل منفصل عن الدعوى الدستوري هي عبر نصوص لائحة المحكمة الدستورية الصادرة في 1974 في مادته الأولى والتي صاغتها المحكمة الدستورية ذاتها . “الطلب الذي يقدم من مجلس الامة او من مجلس الوزراء بشأن تفسير النصوص الدستورية يجب ان يتضمن النص الدستوري المراد تفسيره والمبررات التي تستدعي التفسير”. وقد يظهر أن نص تلك المادة قد ينطوي على شبهة عدم دستورية وعدم مشروعية في آن واحد لعقده اختصاصا لم يشر اليه الدستور من قريب أو من بعيد وأشار اليه المشرع العادي بطريقة لا تستبعد أن يقصد منها التفسيرات التي تقوم بها المحكمة خلال المنازعات الدستورية. ولا شك أن المادة الأولى من لائحة المحكمة الدستورية تحتوي على شبهة انتزاع اختصاص من قبل المحكمة وهي التي سطرت كلمات هذه المادة وعقدت لنفسها ما لم يعقده لها المشرع الدستوري ولا المشرع العادي.

الفرع الأول: أدلة عدم انعقاد اختصاص التفسير بشكل منفصل عن الدعوى الدستورية:
إن اختصاص المحكمة الدستورية هو في فحص المنازعات القضائية والطعون المقدمة بعدم دستورية النص هي دعوى عينية يهدف منها الطاعن لإلغاء النص المطعون ضده وبالتالي طلبات التفسير لا تنطوي على منازعة قضائية بهذا المعنى وكلمة المنازعات المذكورة سواء في المادة 173 من الدستور أو في قانون إنشاء المحكمة الدستورية هي عائدة للتنازع القضائي وليس مجرد النزاع السياسي بين الحكومة والبرلمان حول مادة من مواد الدستور.
كما أن المادة 173 أوردت عبارة “المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح” وهي عبارة صريحة بأن موضوع النزاع مدى دستورية قانون أو لائحة وهي عبارة لا تحتمل التأويل لمعنى أخر فيكون لازم ذلك أن يكون على طاولة المحكمة الدستورية نص طعين يسعى الطاعنون عليه إلى الغاءه بلجوئهم للدعوى العينية.
كما أن المشرع الدستوري ساوى بين الحكومة وذوي الشأن في الطعن لدى تلك الجهة وأضاف قانون انشاء المحكمة الدستورية ليكون مجلس الأمة من بين من يحق لهم الطعن أمام المحكمة الدستورية. ومن هنا يتضح أن للمحكمة ولمجلس الامة وللأفراد وللمحاكم العادية رفع النزاع للمحكمة الدستورية. ولكن بالسماح بتقديم طلبات تفسير تقدم منفصل عن أي دعوى دستورية سيتولد لدينا في النهاية أنه لا يحق سوى للحكومة ولمجلس الأمة رفع هذا الأمر للمحكمة الدستورية وبالتالي حرمان الأفراد والمحاكم العادية من تقديم طلبات تفسير مستقلة أو مجردة. والدستور أو قانون انشاء المحكمة الدستورية لم يضع هذه التفرقة الغريبة في مسألة ما يحق للأطراف تقديمه للمحكمة وبقراءة المادة الرابعة من قانون انشاء المحكمة الدستورية تنص على ” ترفع المنازعات إلى المحكمة الدستورية بإحدى الطريقتين الآتيتين:
أ- بطلب من مجلس الأمة أو من مجلس الوزراء.
ب- إذا رأت إحدى المحاكم أثناء نظر قضية من القضايا سواء من تلقاء نقسها أو بناء على دفع جدي تقدم به أحد أطراف النزاع، أن الفصل في الدعوى يتوقف على الفصل في دستورية قانون أو مرسوم بقانون أو لائحة توقف نظر القضية وتحيل الامر إلى المحكمة الدستورية للفصل فيها.”
فهذه المادة بينت أنه ترفع المنازعات إلى المحكمة الدستورية بطريقتين أما بطلب من مجلس الأمة أو مجلس الوزراء وأما الطريقة الثانية هي عبر وجود قضية معروضة أمام محكمة الموضوع ورأت المحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على دفع من أحد الأطراف بوجود شبهة عدم دستورية قانون أو لائحة تحكم موضوع النزاع. ومن هنا عنصر النزاع الذي تختص به المحكمة الدستورية يتساوى في ايصاله اليها كل من الأطراف السابق ذكرهم، فكيف تخصص المحكمة عبر تفسيراتها بأنه يجوز تقديم طلبات تفسير منفصلة ومستقلة من قبل الحكومة ومجلس الأمة في حين تحرم من سمح لهم الدستور وهم ذوي الشأن أو المادة الرابعة من القانون وهم الأفراد والمحاكم برفع النزاع للمحكمة، فهذه معاملة مغايرة لأطراف متساوية المركز في هذا الشأن باعتبارهم أطرافا يحق لهم رفع المنازعات للمحكمة الدستورية. ولماذا ميزت المحكمة وخصت كل من الحكومة ومجلس الأمة فقط في إيصال طلبات التفسير دون باقي من يحق لهم رفع المنازعات اليها؟
بل وحتى تبني أسلوب الطعن المباشر للأشخاص عبر القانون 109 لسنة 2014 والتي يحق فيها للأشخاص رفع منازعاتهم بشكل مباشر للمحكمة الدستورية دون وجود منازعة معروضة أمام المحاكم العادية نجد أنه يستحيل أن يتقدم الفرد بطلب تفسير مادة من مواد الدستور بمعزل عن أي دعوى دستورية أو منازعة قضائية وذلك من قراءة الاشتراطات الكثيرة التي تطلبتها المادة في المنازعة المرفوعة سواء في عنصر الشكل أو الجدية المتطلبة في الدعوى المرفوعة. فما هو السند التي اقامته المحكمة للتفرقة بين كل من الحكومة ومجلس الأمة وبين باقي الأطراف وهم الأفراد والمحاكم. فلو كان هذا الاختصاص اختصاصا اصيلا من الدستور كما ذهبت المحكمة في العديد من تفسيراتها، فلماذا يعطى هذا الحق لمجلس الأمة في حين لم تشمل المادة 173 من الدستور مجلس الأمة من بين من يحق لهم الطعن، ويحرم منه الأفراد وهم مشمولين في المادة. ومع ذلك نقول بأنه لا اختصاص للمحكمة في نظر طلبات التفسير بشكل منفصل عن دعوى دستورية القوانين واللوائح.
كما أن المحكمة اضطرت لتخلق مفارقة بين الأحكام والقرارات التي تصدرها لتعقد اختصاصها بإصدار القرارات بالنسبة لطلبات التفسير بينما تصدر أحكاما بالنسبة للمنازعات المتعلقة بدستورية القوانين، ولا شك أن هذا أيضا من الأمور المنتقدة من قبل المحكمة فالمشرع الدستوري لم يرد لها أن تكون محكمة بل جهة قضائية ولذلك نصت المادة 173 بأنه “وفي حالة تقرير الجهة المذكورة عدم دستورية قانون أو لائحة يعتبر كأن لم يكن.” فكلمة تقرير المذكورة بالمادة مشتقة من كلمة قرار فيتضح أن ما يصدر من تلك الجهة هي قرارات وليست أحكام قطعا.
كما أنه يلاحظ في أن غالبية طلبات التفسير المقدمة من الحكومة منذ بدايات تقديمها عام 1982 وحتى 2015 كان مجلس الأمة يدفع بعدم اختصاص المحكمة الدستورية بفحص طلبات التفسير فضلا عن تقديم تفسيرات مجردة دون وجود منازعة قضائية وهذا ما يثبت أن المشرع العادي لم يدر في خلده أن يعطي للمحكمة هذا الاختصاص أساسا . وقد أورد مجلس الأمة في العديد من مذكراته رفضا قاطعا لمسألة اختصاص المحكمة الدستورية بنظر طلبات التفسير دون وجود منازعة موضوعية تتعلق بعدم الدستورية بل واعتبارها من وسائل تنقيح الدستور دون اتباع الإجراءات الدستورية في مذكرة ملخص ما جاء فيها “…وقد جرى إشعار مجلس الأمة بورود طلب التفسير إلى هذه المحكمة، حيث نظرته على النحو المبين بمحاضر جلساتها، وقدم الحاضرون عن مجلس الأمة مذكرتين دفع فيهما بعدم اختصاص المحكمة الدستورية بنظر طلبات تفسير النصوص الدستورية على سند حاصله أن اختصاصها بنظر طلبات تفسير النصوص الدستورية على سند حاصله أن الأصيل ينصب على رقابة دستورية القوانين واللوائح، دون أن يتجاوز ذلك إلى تفسير نص دستوري تفسيرًا مجردًا خارج نطاق منازعة دستورية مطروحة عليها، وأن القول بغير ذلك يعني بالضرورة قيام المحكمة الدستورية بتنقيح الدستور بالمخالفة لنص المادة (174) منه التي خولت حق اقتراح تنقيح الدستور للأمير ولثلث أعضاء مجلس الأمة وحدهما، كما أن إصدارها لتلك القرارات التفسيرية ينطوي على إخلال بمبدأ فصل السلطات، وأن ما انتهت إليه المحكمة في قرارها الصادر في طلب التفسير رقم (3) لسنة 1986 فيما تضمنه من اختصاصها بنظر طلبات تفسير النصوص الدستورية على استقلال، لا يعد حكمًا قضائيًا استنفد طرق الطعن عليه، بل هو قرار يجوز طرحه عليها مجددًا وإعادة النظر فيه والعدول عنه…” .

Post a comment

Your email address will not be published.

Related Posts